المحاضرة الثامنة ثالثاً : نظرية سكنر
ثالثاً : نظرية سكنر التعزيز ميز "سكنر" بين ما يدعوه بالسلوك الاستجابى والسلوك الاجرائى فهو يرى أن السلوك يكون استجابياً عندما يتكون من استجابات نتيجة لمثيرات محددة ومعروفة مسبقاً، فعلى سبيل المثال الاستجابة اللعابية التى يستجرها الطعام.
ويكون السلوك اجرائيا عندما يتكون من استجابات تنبعث من الكائن الحى دون أن تكون محكومة أو مضبوطة أو مستجرة بمثيرات محددة ومعروفة على نحو مسبق . وهذه الاستجابة التى تصدر من الكائن الحى تستهدف احداث أو اجراء تغيير ما فى الوضع المثيرى الذى تكون فيه ، فرفع سماعة التليفون عند سماع رنين جرسه يمثل استجابة اجرائية، وذلك لأن سماع صوت التليفون لا يؤدى بالضرورة إلى استجابة رفع السماعة، فقد يقوم السامع بأداء هذه المهمة أو لا يقوم وبإختصار شديد يمكن القول :
أن معظم استجابات السلوك الاستجابى هى من النوع اللاارادى والمحكومة بمثيرات محددة أما استجابات السلوك الاجرائى فهى من النوع اللاارادى التى لا تحكمها مثيرات قبلية محددة فهى تنبعث بصورة تلقائية وتضبط هذه الاستجابات مما يترتب عليها من نتائج.
وبذلك يمكن القول أن هذه الاستجابة الاجرائية تشكل الأداة أو الوسيلة أو الذريعة لتمكن المتعلم من تحقيق هدف ما . وهذا سبب تسمية هذا النوع من التعلم أحياناً بالاشراط الوسيلى أو الذرائعى .
وتتضح فى تجارب "سكنر" اجراءات الاشراط الاجرائى المؤدية إلى اكتساب الاستجابات المرغوب فيها .
تجربة سكنر : وضع حيوان جائع (فأر) فى صندوق مغلق (صندوق سكنر)، تكوين هذا الصندوق من رافعة متصلة بمخزن للطعام بحيث يؤدى الضغط عليها إلى تحرير فتحة مخزن الطعام ونزول كريات لحم يتناولها الفأر الجائع الموجود داخل الصندوق ويتصل بالصندوق عادة عداد القياس الزمنى الذى تستغرقه التجربة، وقياس معدل الاستجابات التى تصدر عن الحيوان ، ويجب على هذا الحيوان أن يضغط على الرافعة فى كل مرة يريد فيها الحصول على الطعام وهذه التجربة التى توضح سلوك الفأر عندما يوضع لأول مرة فى هذا الصندوق تنطوى على مرحلتين أساسيتين هما :
التصميم التجريبى لتجربة سكنر
1. مرحلة تحديد مستوى الاجراء : وفيها يفصل الباحث الرافعة عن مخزن الطعام ويضع الفأر الجائع فى الصندوق حتى يحدد مستوى الاجراء ، أى معدل استجابة الضغط على الرافعة الذى يفعله الفأر دون تزويده بالطعام أى دون حدوث تعزيز (وقد أجريت هذه المرحلة حينما تم وضع فأرا داخل الصندوق وقد صدر عن الفأر عدة استجابات) (اجراءات) متنوعة ومتعددة كالدوران حول محيط الصندوق أو الدوران حول نفسه أو الوقوف فى احدى زوايا الصندوق أو حك الأنف أو محاولة صعود جدران الصندوق، وبعد فترة زمنية معينة يضغط الفأر على الرافعة مصادفة تتكرر هذه الاستجابة عدة مرات أثناء وجوده فى القفص ولكن دون تزويده بالطعام، أن عدد الاستجابات التى يؤديها الفأر فى تلك المرحلة لأى عدد مرات الضغط على الرافعة يزود الباحث بمستوى الاجراء الذى سيقارن به معدل الاستجابات التى يؤديها الفأر بعد الاجراء الشرطى لبيان فعالية التعزيز أو بيان أثر تزويد الفأر بالطعام بعد أداء استجابة الضغط على الرافعة.
2. مرحلة التعزيز (تقديم الطعام) : وفيها يوصل الباحث مخزن الطعام بالرافعة بحيث تؤدى استجابة الضغط إلى نزول الطعام، ولما كان الفأر سيضغط على الرافعة كواحدة من الاستجابات الاجرائية التى تنبعث عنه أثناء وجوده فى القفص فسيزود بالطعام وسيتناولها وسيحاول الضغط ثانيا من أجل الحصول على مزيد من الطعام.
وهذا الاجراء التجريبى أشارت نتائجه إلى أن معدل أداء استجابة (الضغط على الرافعة) يزداد تدريجيا بحيث يتخلى الفأر عن الاستجابات الأخرى العشوائية (كحك الأنف والدوران حول محيط القفص) ويحتفظ باستجابة الضغط على الرافعة طالما كان يشعر بالجوع ويمكننا القول هنا أن الفأر اكتسب أو تعلم الاستجابة نتيجة التعزيز أو تزويده بالطعام.
أى أن سلوك الحيوان (الفأر) قد تغير بسبب الآثار المترتبة على حصوله على التعزيز. ويرى "سكنر" أن التعزيز هو العامل الرئيسى الذى يؤدى إلى التعلم أو تعديل السلوك وهذا ما يمكن الاستفادة منه فى الحقل التربوى فى التعليم المدرسى كاجراء تطبيقى لهذا النموذج وعلى سبيل المثال فكرة التعليم البرنامجى والذى سنعطى فكرة عنه فى نهاية هذا النموذج.
أنواع التعلم الاجرائى: من خلال العرض السابق لنموذج سكنر يمكن استخدام نوعين من المثيرات التى تتلو الاستجابات بوضوح الاهتمام فى اجراءات التعلم الاجرائى. النوع الأول منها يستخدم فى تقوية هذه الاستجابات (المعززات) فى حين استخدام النوع الثانى يؤدى إلى اضعافها أو محوها وطبقاً لهذين النوعين من المثيرات وما يحد من استخدامها من آثار فى السلوك يمكن القول بوجود أربعة أنواع للتعليم الاجرائى هى:
1. التعلم الثوابى: وفيه يستخدم اجراءات التعزيز الايجابى الذى يؤدى إلى اكتساب السلوك أو تقويته أو تعديله، ومنه فيكون مثير مرغوب فيه (نزول قطعة لحم) أداء استجابة معينة، حيث أن نزول قطعة اللحم جعلت الفأر يتجنب أداء أى سلوك آخر (عشوائى) غير الضغط على الرافعة. ويمكن تطبيق التعلم الثوابى فى الحقل التعلمى على سبيل المثال تشجيع المعلم لطلابه عند أدائهم لأى نشاط تعليمى (و يعتبر مثيرا تعزيزياً) يؤدى إلى تقوية هذا الأداء.
2. التعلم التجنبى : وهذا النوع يؤدى إلى اكتساب استجابات تضع حداً لوضع مثيرى عقابى يتسبب فى استثارة حالة مزعجة أو مؤلمة ويستخدم فى هذا التعلم اجراء التعزيز السلبي ، حيث يتلو الاستجابة موضع الاهتمام أنها آثار وضع غير مرغوب فيه، فقد يلتزم التلميذ بتعليمات المدرس (أداء واجبات المدرسة – الهدوء فى الفصل) لا رغبة فى الحصول على مكافأة بل خوفاً من عقوبات قد يتعرض لها بمخالفة هذه التعليمات. وهنا يجب أن نشير إلى أن التعزيز سلبياً كان أم ايجابياً، يؤثر فى السلوك ويؤدى إلى زيادة احتمال ظهوره ثانية.
3. التعلم الحذفى: ويقصد بهذا النوع من التعلم اضعاف أو إزالة سلوك غير مرغوب وذلك باستخدام اجراءات العقاب السلبى. فالتلميذ الذى يحرم من بعض المكافآت (اشتراك فى رحلة - مشاهدة تليفزيون) نتيجة قيامه بسلوك غير مرغوب فيه يحاول فى مرات قادمة كف مثل هذا السلوك وعدم ممارسة .
4. التعلم العقابى : ويهدف إلى اضعاف أو كف سلوك غير مرغوب فيه باستخدام اجراءات العقاب الإيجابى فالتلميذ الذى يتعرض للضرب والتوبيخ أو التهم بأداء مهام اضافية عسيرة نتيجة قيامه بسلوك غير مرغوب فيه يحاول فى مرات قادمة تجنب أداء مثل هذا السلوك للبعد عن العقوبات. ويفضل أن يقوم المعلم بالتهديد باستخدام العقاب قبل أن يعاقب وبذلك فالعقاب الايجابى يحدث لدى تطبيق مثير منفر على استجابة غير مرغوب فيها.
ويمكن ايضاح ما سبق على النحو التالى من خلال هذا المثال : يعد الطعام معززاً إيجابياً إذا أدى تقديمه إلى تقوية سلوك مرغوب فيه ويعد معاقباً سلبياً إذا أدى الحرمان منه الى اضعاف سلوك غير مرغوب فيه، كما يعد الضرب معاقباً إيجابياَ إذا أدى استخدامه إلى اضعاف سلوك غير مرغوب فيه ويعد معززاً سلبياً إذا أدى ايقاف استخدامه إلى تقوية سلوك مرغوب فيه. ويمكن القول أيضاً أن المثيرات العقابية تنقسم مثل المثيرات التعزيزية إلى معاقبات أولية ومعاقبات ثانوية وتشير دون تعلم سابق أو دون تاريخ عقابى سابق كالضرب أو الصدمة الكهربائية أو الحرمان من الطعام أو الشراب أما المعاقبات الثانوية. فهى مثيرات لا تملك بحكم طبيعتها خاصية كف السلوك بل تكتسبها بسبب اقترانها المتكرر بالمعاقبات الأولية فالمدرسة تصبح معاقباً ثانوياً إذا اقترنت بألم تطبيق معاقباً أولياً منها على بعض الطلاب الأمر الذى يؤدى إلى تجنب الذهاب للمدرسة والخوف منها .
فروق جوهرية بين الاشراط الكلاسيكى والاجرائى : كلا النموذجين يعتمدان أساساً على مبادئ الاشراط واجراءاته لذلك يفضل اظهار أهم الفروق الجوهرية التى تميز بين نوعى الاشراط الكلاسيكي والاجراءات لتوضيح الصورة للمعلم والتعلم نوجزها فيما يلى :
فى الاشراط الكلاسيكى يقوم المثير غير الشرطى باستدعاء الاستجابة وانتاجها بينما فى الاشراط الاجرائى يتلو المثير التعزيزى الاستجابة ولا يسبقها أى أن المثير التعزيزى من توابع السلوك ولا يسبقه. فى الاشراط الكلاسيكى يتصف المتعلم بنوع من السلبية أى أنه لا يقوم بأية اجراءات قبل تقديم المثير غير الشرطى بينما يتصف المتعلم فى الاشراط الاجرائى بالايجابية لأنه لن يحصل على المعزز إلا إذا قام بأداء الاستجابة التى يتلوها تقديم هذا المعزز أى أن التعلم الاجرائى يجعل المتعلم أكثر فعالية ونشاطاً.
3. الاستجابة الشرطية التى يكونها المثير الشرطى فى الاشراط الكلاسيكى لا تختلف تقريباً عن الاستجابة غير الشرطية ذاتها التى يكونها المثير غير الشرطى فاستجابة افراز اللعاب واحدة سواء استثارها المثير الشرطى أم غير الشرطى، أما الاستجابات الاجرائية فهى أكثر تنوعاً وتبايناً حيث يمكن استخدام اجراءات الاشراط الاجرائى فى اشراط أى استجابة تنبعث عن المتعلم دون ضرورة تحديد دقيق للمثير الأصلى الذى يكونها أو تظهر بوجوده بمعنى آخر فالاشراط الاجرائى يمكن المتعلم من اكتساب استجابات جديدة أو تشكيل سلوك جديد وهذا لا يحدث فى الاشراط الكلاسيكى.
تطبيقات تربوية للتعلم بالاشراط الكلاسيكى والاجرائى : هذا النوع من أنواع التعلم يتضمن مبادئ وأساليب تعديل السلوك واجراءاته للاستفادة منها فى معالجة السلوك التعليمى ويمكن عرض بعض تطبيقاته على النحو التالى:
1. التشكيل لسلوك المتعلم Shaping : يستخدم الاشراط الاجرائى فى تغيير السلوك بطريقة تدريجية عن طريق المكافأة المستمرة للسلوك الذى يقترب شيئاً فشيئاً من السلوك النهائى المطلوب تعلمه، وقد اتبع سكنر هذه الطريقة فى تعلم حمامة النقر على مفتاح معين موجود فى أحد جدران الصندوق فى مستوى ارتفاع رأس الحمامة . وكان هذا المفتاح مستدير الشكل، ملوناً باللون الأبيض وفى مركزه نقطة سوداء . قام "سكنر" بوضع حمامة جائعة فى الصندوق ، فكانت فى بداية الأمر تتحرك حركات استكشافية. ولكن كلما واجهت الحمامة هذا المفتاح ، كان سكنر يكافأها بأن يسقط لها حبه من الطعام فى وعاء موجود تحت المفتاح . وبعد فترة من الوقت، تعلمت الحمامة أن تقف فى مواجهة المفتاح. ثم امتنع سكنر بعد ذلك عن مكافآتها إلا إذا اقتربت كثيرا من مكان المفتاح. ثم بعد ذلك امتنع عن مكافآتها إلا إذا نقرت النقطة السوداء الموجودة فى مركز المفتاح.
وهكذا استطاع "سكنر" فى نهاية الأمر أن يعلم الحمامة أن تنقر النقطة السوداء مركز المفتاح لكى تحصل على الطعام. والطريقة التى اتبعها "سكنر" كما هو واضح فى الشرح السابق ، هو تدعيم كل سلوك تقوم به الحمامة يكون قريباً من السلوك المطلوب تعلمه ، وبعبارة أخرى، فقد قام سكنر بتشكيل سلوك الحمامة تدريجياً، حتى انتهى الأمر بأن تعلمت الحمامة السلوك الذى أراد أن يعلمها إياه وتعرف هذه الطريقة بالتشكيل.
وللتشكيل تطبيقات كثيرة فى حياتنا اليومية ، فهو يستخدم فى تعديل السلوك فى المدرسة وذلك بتعليم الطفل أولاً حل مسائل حسابية سهلة ، فإذا اتقنها يمكن تعليمه بعد ذلك حل مسائل حسابية أصعب قليلاً ثم ينتقل التلميذ بعد ذلك إلى تعلم مسائل حسابية أصعب فأصعب حتى يستطيع فى النهاية أن يتعلم حل مسائل حسابية كثيرة الصعوبة ويمكن تطبيق نفس المبدأ فى تعلم المهارات الحركية.
وبذلك يتضح أن مفهوم التشكيل يستخدم للتغلب على مشكلة الاستجابات المعقدة التى لا تنبعث عن المعلم تلقائياً، ويشير هذا التشكيل (كما تم إيضاحه فى المثال السابق) إلى مجموعة اجراءات تتضمن تحديد الهدف السلوكى المرغوب فيه وتقسيمه إلى سلسلة من الخطوات المتتالية والتى تقترب من بلوغ الهدف وتعزيز كل خطوة على حده بالترتيب الذى يؤدى إلى تحقيق الهدف المنشود بحيث لا يحدث الانتقال من خطوة إلى خطوة تالية إلا إذا اتقن المتعلم الخطوة السابقة ويستمر هذا النوع من التقريب المتتالى حتى تحقيق السلوك المطلوب.
تزويد المتعلم بالتغذية العائدة المناسبة بعد أداء كل استجابة مباشرة. 2. التعليم المبرمج: يستخدم هذا النوع مجموعة من الاجراءات المتبعة فى تنظيم المواد الدراسية وتخطيطها وتقديمها طبقاً لمبادئ التعلم الاشراطى بغض النظر عن الوسائل المستخدمة فى التدريس (آلات تعليمية – مخابر – حاسبات) وتتناول تلك الاجراءات نشاطات ثلاث هى : تحديد المادة التعليمية وتجزئتها إلى وحدات بسيطة وترتيبها وتقديمها بشكل متسلسل (شكل عبارات أو أسئلة يجيب عليها المتعلم). ملاحظة كل استجابة تصدر عن المتعلم على حده مثل اجابة سؤال أو حل مسألة رياضية. تزويد المتعلم بالتغذية العائدة المناسبة بعد أداء كل استجابة مباشرة.
وقد استخدمت برامج التعليم المبرمج بشكل ناجح فى تدريس العديد من المواد التعليمية، كاللغات، والرياضيات، والإحصاء والعلوم والجغرافيا ... الخ كما استخدمت فى مراحل التعليم المختلفة بدءاً من رياض الأطفال وانتهاء بالجامعات، وتناولت أنماطاً سلوكية مختلفة، كتعلم المفهوم والحفظ عن ظهر قلب ، والاكتشاف والابتكار وحل المشكلات ويعود السبب فى نجاحه وانتشار برامج التعليم المبرمج إلى تنظيم المادة وعرضها بشكل متسلسل ، وإلى استخدام التغذية الراجعة المناسبة طبقاً لجداول تعزيزية معينة.
3. تعديل السلوك أو علاجه : هناك افتراض أساسى يرى أن معظم أنواع السلوك غير السوى هى نتيجة التعلم ويمكن علاجه باستخدام أنواع التعلم الاشراطى المختلفة، ومن نتائج كثير من الدراسات أن هذا النوع من التعلم يفيد فى علاج الكثير من المشكلات السلوكية من الأطفال والراشدين كالمخاوف المرضية والادمان والتبول اللاارادى ... الخ والاجراءات المستخدمة فى علاج مثل هذه المشكلات تقوم على :
أ- تحديد السلوك غير المرغوب فيه. ب- أسبابه أ- تحديد السلوك غير المرغوب فيه. ب- أسبابه. ج- تحديد تقنيات الاشراط (تعزيز ايجابى وسلبى، عقاب ايجابى وسلبى). د- اضعافه وتزويد الفرد باستراتيجيات فعالة تمكنه من اكتساب أنماط سلوكية جديدة مرغوب فيها.
مثال (1): اتضح مما سبق أهمية التدعيم والمكافأة فى تعديل السلوك مثال (1): اتضح مما سبق أهمية التدعيم والمكافأة فى تعديل السلوك. فالسلوك عادة يتعدل بناءاً على نتائجه. فالسلوك الذى يدعم يتعلم والسلوك الذى لا يدعم لا يتعلم. فإذا انزعجت أم ، مثلا لبكاء طفلها الصغير حينما تضعه فى فراشه ليلاً لكى ينام، فتقوم بحمله وارجحته والربت عليه حتى ينام ، فإنها تقوم فى الواقع بتدعيم بكاء الطفل . وسوف يتعلم هذا الطفل أن يبكى دائما كلما وضع فى فراشه لكى ينام. ويمكن تعديل سلوك هذا الطفل وجعله يقلع عن عادة البكاء بالامتناع عن حمله إذا بكى (أى بالامتناع عن تدعيم البكاء) فإذا صبرت الأم على ذلك عدة أيام فسوف تجد طفلها يكف عن البكاء تدريجيا. ولكن إذا حدث أن قامت الأم بحمله فى إحدى الليالى إذا بكى. بعد أن كانت قد امتنعت عن حمله بضعة ليالى سابقة فإنها بذلك إنما تقوم بتدعيم بكاء الطفل تدعيما جزئيا، مما يؤدى إلى تقوية عادة البكاء عند طفلها. وذلك لأن التدعيم الجزئى يقوم الاستجابة المتعلمة ويجعلها أكثر مقاومة للانطفاء .
مثال (2): وقد يتعلم الأطفال أيضا عن طريق الاشراط الاجرائى بعض الأعراض السيكوسوماتية (النفسجسمية) فقد يحدث مثلا أن يشعر بعض الأطفال بخوف شديد من الذهاب إلى المدرسة ، لأنه لم يستعد جيدا لأداء الامتحان ، أو بسبب خوفه من مدرسة الحساب ، مثلاً لأنه لم يقم بالواجب الذى كلفته به وتحدث عادة عند الخوف الشديد بعض الأعراض البدنية مثل الشعور بالغثيان ، وافتقاع اللون، والإغماء والإسهال فإذا لاحظت الأم بعض هذه الأعراض وظنت أن ابنها مريض فمنعته من الذهاب إلى المدرسة وابقته فى البيت واحاطته بكثير من الاهتمام فإنها بذلك إنما تقوم بتدعيم هذه الأعراض البدنية فإذا تكرر ذلك عدة مرات ، فمن المحتمل جدا أن يتعلم الطفل أن يستجيب لهذه الأعراض للهروب من المسئولية .
الثواب والعقاب فى الصف: سبق أن أشرنا إلى وجود نوعين من التعزيز: الايجابى الذى يتضمن الحصول على منبه لذيذ والسلبى الذى يتضمن إزالة منبه مؤلم. والأمر بالمثل فيما يتعلق بالعقاب فهناك نوعان مقابلان لنوعى التعزيز، العقاب الذى يحدث باستبعاد منبه لذيذ والعقاب الذى يحدث بإيقاع الألم أو التعرض لمنبه مؤلم .
المثــــــــــير محبب مكروه يضاف التعزيز الايجابي العقاب (1) يستبعد العقاب (2) التعزيز السلبى
التعزيز الإيجابى: وأمثلته واضحة لا تعد داخل الصف وتتلخص فى كافة أنواع التشجيع والتلطف التى يقوم بها المدرس ابتداءاً من الابتسام إلى الدرجات العالية إلى التقارير.... الخ. التعزيز السلبى : ويتضمن كافة أنواع التهديد الواضح أو الخفى بالعقاب والتوبيخ والرسوب والحبس فى المدرسة.... الخ.
فعندما تتلو هذه الأفعال سلوكاً شيئاً تكون مثالاً للعقاب (يقدم منبه مؤلم بعد سلوك سئ). وعندما يستبعد إيقاع مثل هذه العقوبات بعد قيام التلميذ بسلوك مقبول تكون مثالاً على التعزيز السلبى (إزالة منبه كريه بعد سلوك مقبول).
العقاب من النوع الأول: ويتضمن تقديم منبه مؤلم أو مكروه فى محاولة إزالة سلوك غير مقبول ومن الأمثلة الشهيرة على ذلك وضع بيان بأنواع العقاب التى ستوقع على التلميذ فى حالة قيامه بأنواع سيئة من السلوك (إحداث شغب = تذنيب). ضرب زميله = عقاب بدنى
العقاب من النوع الثانى : ويتضمن ابتعاد منبه محبب ومثاله الشهير استبقاء التلاميذ فى المدرسة بعد انصرافها.
مبررات عدم استخدام العقاب فى الصف كوسيلة للتعلم : من الواضح أن التعزيز يلعب دوراً أكبر فى حدوث التعلم أما العقاب فليس له مثل هذا الدور إذ أنه مقصور على استبعاد السلوك السيئ لكنه لا يشير إلى السلوك المطلوب. كما أن استخدام العقاب يثير انفعالات معادية غالباً ما ترتبط بالشخص الذى يوقع العقاب أكثر من ارتباطها بالسلوك المعاقب عليه. وفى كثير من الأحوال لا يؤدى العقاب الى استبعاد السلوك السيئ وإنما يتم تجنبه فقط وأحياناً لفترة قصيرة. وأخيراً فمن الأمور الملحوظة أن العقاب لا ينجح عادة فى استبعاد السلوك المكروه بل قد يزيد منه مثل ما يحدث فى حالة الأطفال الذين يعاقبون لاعتدائهم على زملائهم.
جداول التعزيز حاول سكنر من خلال تجاربه على الحمام والفيران أن يكتشف أمرين الأول : هو العلاقة بين نوع وكمية التعزيز وبين مقاييس التعلم والثانى : هو العلاقة بين الطريقة المستخدمة فى التعزيز وبين التعلم .
ومن الواضح أن العلاقة الأولى لا يمكن الوصول فيها إلى اليقين بسهولة حيث أن نوع وكمية التعزيز يبدو أنهما يؤثران على مختلف الأفراد بطرق لا يمكن التنبؤ بها فمن الواضح أن مكافأة أو ثواباً صغيراً قد يؤدى إلى تعلم قوى المفعول والاحتفاظ به لفترات طويلة فى حين أن بعض المكافآت الكبيرة قد تؤدى إلى توقف السلوك .
أما العلاقة المثالية فهي أسهل نوعاً من حيث تحديدها حيث يمكن إخضاعها للبحث التجريبى المباشر ويطلق سكنر على الطريقة التى تستخدم بها المكافآت تعبير جداول التعزيز، فالتعزيز قد يقدم بشكل مستمر أو بشكل متقطع وفى الحالة الأولى تقدم المكافأة فى مقابل كل استجابة صحيحة أما فى الحالة الثانية فإنها تقدم لبعض الاستجابات فقط.
وفى هذه الحالة يكون هناك طريقان لاختيار الاستجابات التى سنعززها فإما أن نعزز نسبة من المحاولات (جداول التعزيز بالنسبة) أو نضع جداول التعزيز على أساس الزمن (جداول التعزيز الزمنية). ففى الاختيار الأول قد يقرر المجرب أن يعزز واحدة من كل خمس استجابات صحيحة أما الاختيار الثانى ففيه يعزز المجرب استجابة صحيحة واحدة فى كل عشر دقائق.
ويظل أمام المجرب أسلوبان فى كل اختيار فإما أن يحدد مسبقاً ترتيب الاستجابة التى سيعززها الأولى أو الخامسة مثلاً ويكون الجدول فى هذه الحالة جدولاً ثابتاً وإما أن يختار الاستجابة التى سيعززها بطريقة عشوائية ويكون الجدول فى هذه الحالة جدولاً عشوائياً. وأحيانا يلجأ المجربون إلى استخدام خليط من هذه الأساليب فيما يسمى بجداول التعزيز المختلطة.
ومن الواضح أن الفقرة السابقة قد تثير الاختلاط لدى القارئ لكن تتضح بساطتها إذا ما نظرنا إلى الرسم التالى : جداول التعزيز متقطع بالنسبة عشوائي محدد بالزمن مستمر المختلطة
التعزيز والتعلم : دارت معظم تجارب سكنر وأعماله حول اكتشاف العلاقة بين مختلف جداول التعزيز وأحد أشكال مقاييس التعلم وهى درجة التعلم ودرجة الاستجابة ودرجة الانطفاء.
ولقد بدا من تجاربه أن العلاقة بين جداول التعزيز وهذه الدرجات الثلاث للتعلم صحيحة بالنسبة للحيوانات . فاتضح أن التعزيز المستمر ذو أثر فعال فيما يتعلق بدرجة التعلم فالفأر الذى نعلمه الضغط على الرافعة سيزداد عدد مرات استجابته الصحيحة فى حالة تعزيز بعض استجاباته الصحيحة الأولى أما فى حالة الصف الدراسى فإن هذا يعنى أن المحاولات الأولى للتعلم عند الصغار تتطلب مزيداً من التعزيز عما تتطلبه المراحل اللاحقة ويتلقى التلاميذ هذا التعزيز فى شكل الإشادة أو فى شكل معرفتهم بنتائج عملهم .
أما فى حالة التعزيز المستمر فقد لوحظ أنه غالباً ما يؤدى إلى اكتساب سريع للتعلم ولكن استبقاء ما يتعلمه الكائن تقل مدته . إن انطفاء السلوك الذى عزز بشكل مستمر أسرع من انطفاء السلوك الذى عزز بشكل متقطع . ويعنى الانطفاء توقف الاستجابة بتوقف التعزيز . ودرجة الانطفاء هى الوقت الذى ينقضى ما بين بداية إيقاف التعزيز وبين توقف السلوك . ويستخدم المدرسون هذا الأسلوب عادة فى المدارس فى شكل عدم الانتباه لأنواع سلوك التلاميذ التى تحاول جذب انتباه المدرس وبشكل عام يبدو أن أفضل طرق التعزيز هى التى تبدأ بالتعزيز المستمر الذى يتلوه تعزيز متقطع . وبالنسبة لجداول التعزيز المتقطع فإن الطريقة العشوائية هى التى تؤدى إلى أطول درجة انطفاء .
وهكذا ابتدع سكنر وأتباعه أساليب مبتكرة لتعزيز سلوك الفئران والحمام وملاحظة الآثار الدائمة لذلك التعزيز على أنواع سلوكها البسيطة . وكان هذا مصدراً لمئات البحوث والرسائل الجامعية فى مسألة تعلم الحيوان . وقد طبقت هذه النتائج على تعلم الأطفال الصغار فأيدت معطيات سكنر . فمثلاً قارن ماركيز (1941) بين سلوك الأطفال الذين يتم إرضاعهم على أساس منتظم (جدول تعزيز زمنى محدد) وبين سلوك الأطفال الذين يتم إرضاعهم وفقاً لطلبهم (عشوائى) فظهر أن الأطفال الذين يسيرون وفق جدول محدد يظهر لديهم زيادة فى النشاط قبل ميعاد الرضاعة . وكذلك لاحظ " باندورا وولترز" (1963) ملاحظة مشابهة حيث وجدا أن سلوك الأطفال الصغار الذين يرغبون فى جذب انتباه الوالدين يكون أكثر دواماً بسبب تعزيز الوالدين العشوائى لهذا السلوك .
وتوجد فى الحياة اليومية أمثلة كثيرة على أثر التعزيز المتقطع على سلوك البشر فنجد الصياد مثلاً يصطاد دائماً فى الأماكن التى استطاع أن يصطاد فيها سمكة كبيرة مرة أو مرتين على الرغم من أنه لم يحصل فيها على أى صيد مرات كثيرة .
ولقد بينت الكثير من الدراسات على تأثير التطويع الفعال والتعزيز المتقطع على سلوك الأطفال كالابتسام والمص وإصدار الأصوات أن هذه الأنواع من السلوك لدى الأطفال تشابه سلوك الحيوانات .
دور التشكيل فى التعلم : أشرنا من قبل إلى هذا الأسلوب الذى ابتدعه سكنر (1951) لتعلم الحيوانات أنواع السلوك المركب . وأسلوب التشكيل يتضمن تقديم مكافآت على استجابات ليست هى الاستجابة النهائية المطلوبة وإنما تقرب الكائن من الغاية التى يرغبها المجرب ، ويسمى هذا الأسلوب بالتعزيز الفارقى للتقريبات المتتالية . وقد وضح أثر هذا السلوك فى تدريب الحيوانات فى صندوق سكنر ولكن ما هو تأثيره على السلوك الإنسانى ؟
تبين الملاحظات أن سلوك الكثير من الناس يتم صياغته وتشكيله عن طريق التعزيز وأن البشر غالباً ما يستخدمون أساليب التشكيل لتعديل سلوك من حولهم من البشر عن عمد . والفكرة الأولى واضحة فيما نراه من أن سلوك الكثيرين يتعدل فى اتجاه هدف معين بطريقة تدريجية بواسطة التعزيز . وهناك أمثلة كثيرة على التشكيل فى الصف الدراسى فتشجيع الأقران أو سخطهم والذى يتم أحياناً بطرق غير لفظية يكون له كبير الأثر فى تعديل سلوك تلميذ ما . فالطالب المهرج يتوقف عن تهريجه إذا لم يعره زملاؤه أى اهتمام بل قد يكون السبب فى أنه صار مهرجاً هو تشجيع زملائه له واهتمامهم به . أما الفكرة الثانية والخاصة بالاستخدام المباشر لكثير من الناس لأساليب التشكيل لتحكم فى سلوك الآخرين فهو أمر شائع ومعروف ومن أشهر أمثلته تمادى الشخص (الخطيب، الممثل، المدرس) فى التوسع فى موضوع معين أو فى طريقة معينة للتهكم عن طريق إشارات أو أصوات الاستحسان أو الاستهجان من سامعيه أو مشاهديه .
الحرية والكرامة والسلوك : إذا ما كانت معظم أنواع السلوك الانسانى خاضعة للتعزيز أو لعدمه فإن ذلك يعنى أن غالبية البشر تتحكم فيهم مؤثرات البيئة وبالتالى فإن حرية الإرادة التى يتشدق بها الكثيرون ليست إلا وهماً . فكل أفعالنا المعتادة خاضعة للتعزيز وليس لدى الفرد حرية فى اختيار سلوكه ولقد أكد سكنر فى أحدث كتبه والذى سماه "ما وراء الحرية والكرامة " (1971) أن وجود ما يسمى الشخص المستقل هو أسطورة وأن فكرة الاستقلال هذه إنما نشأت لتفسير السلوك الذى لم يمكن تفسيره بوسائل أخرى. أى أنها نشأت عن جهلنا وكلما زادت معرفتنا بمصادر السلوك زالت الأوهام عن فكرة الاستقلال . ويرى سكنر أن البشر خاضعون تماماً لبيئتهم ويقصد بالبيئة تلك التى صنعها الإنسان والتى يمكنه بالتالى أن يتحكم فيها ، وهناك فارق بين المعنيين فالبيئة التى يمكننا التحكم فيها تعنى أننا أحرار لأننا نستطيع تغيير معززاتها . أم البيئة التى هى من صنعنا ولكن ليس لنا سلطان مباشر عليها تعنى أننا لسنا أحراراً فالبشر كنوع قد يسيطرون على مصيرهم ولكن كل فرد فى حد ذاته لا يستطيع أن يسيطر على أفعاله .
ولقد هاجم الكثيرون سكنر بسبب هذه الفكرة خاصة أصحاب مدرسة علم النفس الإنسانى التى تقول بأن حرية الإنسان فى الاختيار هى أساس وجوده وأنها موضوع علم النفس كله وبدونها لا يمكن حتى لأفكار سكنر أن توجد.