نطاق سريان القواعد القانونية من حيث الزمان تثور مشكلة تطبيق القانون من حيث الزمان – أي وقت التطبيق- عندما توجد وقائع أو تصرفات تبدأ في الوجود في ظل قاعدة قانونية، وتلغى هذه القاعدة قبل أن تكتمل عناصر التكوين أو ترتيب الآثار الناجمة عن هذه الوقائع أو التصرفات، وتحل محل القاعدة القديمة، قاعدة قانونية جديدة تنظم نفس الوقائع والتصرفات، ففي هذه الحالة أي القاعدتين نطبق؟ ولمزيد من التوضيح ص174.
هذه الإشكالية أدت إلى ضرورة وضع ضوابط تحدد نطاق سريان كل من القاعدة القديمة والجديدة في الزمان، فكانت نظريات حل تنازع القوانين:. ولكن قبل تناول هذه النظريات نود أن نوضح أن القانون بشكلٍ عام يقوم على قاعدة أساسية تعالج هذه الإشكالية وهي- أي القاعدة – (أن القانون متى صار نافذاً بدأت حياته، فسرى على كل الوقائع التي توجد بعد هذا التاريخ، ويستمر سريانه على كل ما يعرض من وقائع حتى تنتهي حياته بإلغائه). فهذه القاعدة تحمل معنيين أولهما: أن القانون يسري فوراً بعد نفاذه، وهو ما يسمى (بالأثر الفوري أو المباشر للقانون)،
وثانيهما: أن القانون يقتصر على الوقائع التي تعرض أو تحدث أثناء حياته، ولا شأن له بالوقائع التي تحدث قبل صيرورته نافذاً، وهو ما يسمى (بمبدأ عدم رجعية القانون للماضي). وهذان المبدآن يشكلان نظريات حل تنازع القوانين وهي: أولاً: النظرية التقليدية ( مبدأ عدم رجعية القوانين) ظهرت هذه النظرية بعد التقنين المدني الفرنسي وسادت طوال فترة القرن التاسع عشر، وتقوم هذه النظرية على التفرقة بين الحق المكتسب ومجرد الأمل. وهذا المبدأ يعني عدم المساس بالحقوق المكتسبة، فلا يمس القانون الجديد بالحق المكتسب وإلا كان سارياً بأثر رجعي. ولكن يجوز للقانون الجديد أن يسري على الماضي إذا لم يترتب على ذلك إلا مجرد المساس بالأمل، فالمساس بمجرد الأمل ليس من شأنه سريان القانون بأثر رجعي، لأنها لم ترتفع بعد إلى مرتبة الحقوق المكتسبة.
ومثال ذلك: إذا أوصى شخص يثلث ماله في ظل قانون يجيز ذلك، ثم قبل موت الموصي صدر قانون جديد يخفض الحد الجائز للوصية إلى الربع، في هذه الحالة يطبق القانون الجديد على هذه الوصية، لأن الموصي له ليس له قبل وفاة الموصي إلا مجرد أمل، وليس له أي حق مكتسب، لأن الوصية لا تتم إلا بموت الموصي. أما إذا صدر هذا القانون بعد وفاة الموصي فإنه لا يؤثر ولا يسري على الموصي له لأنه يكون قد اكتسب حقاً. مبررات مبدأ عدم الرجعية: (أ) العدالة: فهي تستلزم عدم سريان القانون على الوقائع التي حدثت قبل صدوره. (ب) إذا ما طبق قانون على تصرفات نشأة في الماضي، فإن ثقة الناس في القانون ستنعدم. فالخوف من صدور قانون جديد يهدم ما تم قبله، يجعل القانون أداة لهدم المجتمع وليس لبنائه، مما يؤدي إلى عدم احترامه.
(ج) مبدأ عدم الرجعية يؤدي إلى الاستقرار داخل المجتمع، وهو جوهر هذا المبدأ، فإلغاء الأوضاع السابقة التي استقرت يؤدي إلى إحلال الفوضى . استثناءات على هذا المبدأ:. يرى أصحاب هذه النظرية، أنه يمكن الخروج على هذا المبدأ، وبالتالي تطبيق القانون الجديد بأثر رجعي في بعض الحالات وهي: (1) إذا نص المشرع صراحة على تطبيق القانون الجديد بأثر رجعي، ويكون ذلك في تشريع عادي صادر من السلطة التشريعية، وليس بلائحة. (2) في النصوص الجنائية، بشرط أن تكون القوانين الجديدة أصلح للمتهم. إذا كانت تلغي أو تخفف عقوبة صادرة في ظل قانون قديم. (3) القوانين المتعلقة بالنظام العام. مثل سن الرشد أو الطلاق.
نقد النظرية التقليدية: (1) عدم وجود معيار محدد تستند إليه النظرية في تحديد ما هو حق مكتسب، وما هو مجرد آمال. (2) إن النظرية تخلط بين الأثر الرجعي و الأثر المباشر للقانون الجديد في بعض الحالات، مثال حالة سن الرشد فهي تقول بأنها تسري بأثر رجعي وهي في الحقيقة تسري بأثر مباشر. عندما تعود به إلى حالة القصر وفقاً للقانون الجديد. (3) أخذ على هذه النظرية، خطورة النتائج التي انتهت إليها، وهي عدم المساس بالحقوق المكتسبة، وهو ما يؤدي إلى غل يد المشرع، بحيث لا يتمكن من إجراء أي إصلاح ينشده المجتمع.
ثانياً: النظرية الحديثة: وحجر الزاوية في هذه النظرية، هو أن القانون الجديد يسري ابتداءً من يوم نفاذه، وهو ما يسمى بالأثر المباشر للقانون، وهو لا يسري بأثر رجعي، أي لا يسري على ما يسبق يوم نفاذه. إذا سريان القانون من حيث الزمان يحكمه كما ذكرنا سابقاً مبدآن هما: الأول: عدم سريان القانون بأثر رجعي، والثاني: سريان القانون بأثر مباشر. أساس أو مبررات الأثر المباشر للقانون الجديد: (1) يذهب الرأي السائد إلى أن ساس هذا المبدأ يكمن في أنه فترض أن القانون الجديد يعتب أفضل من القديم، وأنه يمثل تطوراً وتقدماً في الفكر والنظام القانوني، ولهذا فإن المصلحة العامة تستوجب التوسع بالأخذ بهذا المبدأ، حتى تعود مزاياه على المجتمع.
(2) الأخذ بهذا المبدأ، من شأنه منع ازدواجية وتعدد التشريعات داخل الدولة، فلولا الأخذ بهذا المبدأ لكانت هناك مراكز ووقائع تخضع للقانون القديم وأخرى تخضع للقانون الجديد، الأمر الذي يؤدي إلى الاضطراب والفوضى والاختلاف داخل المجتمع، مثل تحريم الطلاق. النتائج المترتبة على الأخذ بهذا المبدأ: يحكم كل الأوضاع والمراكز التي نشأت وانتهت في ظله أو بعد نفاذه. ولا مشكلة في ذلك. ولكن تثور المشكلة عندما نكون أمام تصرفات ووقائع ومراكز نشأت وبدأت في ظل قانون قديم وانتهت في ظل قانون جديد، حينئذ يطبق هذا المبدأ على النحو التالي:
(أ) ما يتعلق باستكمال تكوين الأوضاع القانونية الناقصة، يسري عليها القانون الجديد، أما ما تم تكوينه في ظل قانون قديم فيحكمه القانون القديم. فمثلاً صدر قانون ينقص مقدار الوصية، فإن القانون الجديد يطبق على كل وصية أبرمت في ظل قانون قديم ولم تنتهي بعد إلا في ظل الجديد. أما إذا كان القانون يعدل من شروط الوصية، كالأهلية أو شكل إبرامها، فإنه يسري القانون القديم ولا يسري الجديد على ما أبرم قبل نفاذه. (ب) ما يتعلق بالأوضاع التي نشأت في ظل القانون القديم ولم تنقضي إلا في ظل القانون الجديد، فإن الجديد هو الذي يسري. مثال مدة اكتساب الملكية في ظل القديم 10 سنوات وفي الجديد 15 سنة، يطبق القانون الجديد.
(ج) القانون الجديد يحكم كل الآثار القانونية التي ترتبت بعد نفاذه بالرغم من أن الآثار ترتبت على أوضاع أو مراكز قانونية وجدت في ظل القانون القديم، مثل حل الزواج في يد القضاء وفق القانون الجديد، يسري على الزواج الذي تم في ظل القانون القديم. ومثال: سعر الفائدة إذا تغيرت بموجب القانون الجديد فيسري عليها من وقت نفاذه . نقد النظرية الحديثة: أولاً: ميزت هذه النظرية بشكلٍ واضح بين مبدأ الأثر الرجعي والأثر المباشر. وهو ما لم تتوصل إليه النظرية التقليدية.
ثانياً: ولكن يوجه إليها النقد بحسبان أنها جعلت التفرقة بين الأثر المباشر للقانون الجديد، والأثر الممتد للقانون القديم قائمة على أساس غير واضح، يتمثل في التفرقة بين المراكز القانونية والعقدية، وهو ما يصعب التفرقة بينهم. الأمر الذي دعا أنصار هذه النظرية، لاستخدام فكرة النظام العام، للحد من امتداد القانون القديم بعد نفاذ القانون الجديد. فإذا كان القانون يتعلق بالنظام العام فإنه يطبق بأثر فوري على المراكز القانونية والعقدية، حتى ولو وجدت في ظل القانون القديم، مادامت لم تنقضي أو تترتب آثارها كلها في ظل القديم.